الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله تعالى: {فَاطِرُ السماوات والأرض} بالرفع على النعت لاسم الله، أو على تقدير هو فاطر.ويجوز النصب على النداء، والجرّ على البدل من الهاء في {عَلَيْهِ}.والفاطر: المبدع والخالق. وقد تقدّم.{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} قيل معناه إناثًا.وإنما قال: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم.وقال مجاهد: نَسْلًا بعد نسل.{وَمِنَ الأنعام أَزْواجًا} يعني الثمانية التي ذكرها في (الأنعام) ذكور الإبل والبقر والضأن والمعز وإناثها.{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يخلقكم وينشيءكم {فِيهِ} أي في الرحم.وقيل: في البطن.وقال الفرّاء وابن كيسان: {فيه} بمعنى به.وكذلك قال الزجاج: معنى {يَذْرَوُكُمْ فِيهِ} يكثركم به؛ أي يكثركم يجعلكم أزواجًا، أي حلائل؛ لأنهن سبب النسل.وقيل: إن الهاء في {فِيهِ} للجعل، ودلّ عليه {جَعَلَ}؛ فكأنه قال: يخلقكم ويكثركم في الجعل.ابن قتيبة: {يَذْرَوُكُمْ فِيهِ} أي في الزوج؛ أي يخلقكم في بطون الإناث.وقال: ويكون {فِيهِ} في الرحم، وفيه بُعْدٌ؛ لأن الرحم مؤنثة ولم يتقدّم لها ذكر.{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السميع البصير} قيل: إن الكاف زائدة للتوكيد؛ أي ليس مثله شيء.قال:
فأدخل على الكاف كافًا تأكيدًا للتشبيه.وقيل: المثل زائدة للتوكيد؛ وهو قول ثعلب: ليس كهو شيء؛ نحو قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا} [البقرة: 137].وفي حرف ابن مسعود {فَإنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} قال أوْس بن حَجَر: أي كجذوع.والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعليّ صفاته، لا يشبه شيئًا من مخلوقاته ولا يشبّه به، وإنما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي؛ إذ صفات القديم جل وعز بخلاف صفات المخلوق؛ إذ صفاتهم لا تنفك عن الأغراض والأعراض، وهو تعالى منزّه عن ذلك؛ بل لم يزل بأسمائه وبصفاته على ما بيّناه في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)، وكفى في هذا قوله الحق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}.وقد قال بعض العلماء المحققين: التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطّلة من الصفات.وزاد الواسطيّ رحمه الله بيانًا فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ؛ وجلّت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة؛ كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة.وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة.رضي الله عنهم!قوله تعالى: {لَهُ مَقاليدُ السماوات والأرض} تقدّم في (الزُّمَرَ) بيانه.النحاس: والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن؛ يقال للمفتاح: إقليد، وجمعه على غير قياس؛ كمحاسن والواحد حسن.{يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ} تقدّم أيضًا في غير موضع.قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا} فيه مسألتان:الأولى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين} أي الذي له مقاليد السماوات والأرض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى؛ ثم بيّن ذلك بقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائرِ ما يكون الرجل بإقامته مسلمًا.ولم يرِد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة؛ قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وقد تقدّم القول فيه.ومعنى {شَرَعَ} أي نهج وأوضح وبيّن المسالك.وقد شَرَع لهم يَشْرَع شَرْعًا أي سنّ.والشارع: الطريق الأعظم.وقد شَرَع المنزِلُ إذا كان على طريق نافذ.وشرعت الإبلَ إذا أمكنتها من الشريعة.وشرعت الأديم إذا سلخته.وقال يعقوب: إذا شققت ما بين الرجلين، قال: وسمعته من أم الحُمَارِس البَكْرِيّة.وشرعت في هذا الأمر شروعًا أي خضت.{أَنْ أَقِيمُواْ الدين} {أَنْ} في محل رفع، على تقدير والذي وصّى به نوحًا أن أقيموا الدّين، ويوقف على هذا الوجه على {عيسى}.وقيل: هو نصب، أي شرع لكم إقامة الدين.وقيل: هو جرّ بدلًا من الهاء في {به}؛ كأنه قال: به أقيموا الدين.ولا يوقف على {عيسى} على هذين الوجهين.ويجوز أن تكون {أن} مفسرة؛ مثل: أن امشوا، فلا يكون لها محل من الإعراب.الثانية قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور: «ولكن ائتوا نوحًا فإنه أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحًا فيقولون له أنت أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض» وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أوّل نبيّ بغير إشكال؛ لأن آدم لم يكن معه إلا نبوّة، ولم تفرض له الفرائض ولا شُرعت له المحارم، وإنما كان تنبيهًا على بعض الأمور واقتصارًا على ضرورات المعاش، وأخذًا بوظائف الحياة والبقاء؛ واستقر المَدَى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظّف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات، ولم يزل ذلك يتأكّد بالرسل ويتناصر بالأنبياء صلوات الله عليهم واحدًا بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان المعنى أوصيناك يا محمد ونوحًا دينًا واحدًا؛ يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزَّلَف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنى والأذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات؛ فهذا كله مشروع دِينًا واحدًا وملة متحّدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم؛ وذلك قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} أي اجعلوه قائمًا؛ يريد دائمًا مستمرًا محفوظًا مستقرًّا من غير خلاف فيه ولا اضطراب؛ فمن الخلق مَن وفّى بذلك ومنهم من نكث:{فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 10].واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم.والله أعلم.قال مجاهد: لم يبعث الله نبيًّا قطُّ إلا وصّاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار للّه بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم؛ وقاله الوالِبِيّ عن ابن عباس، وهو قول الكلبيّ.وقال قتادة: يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام.وقال الحكم: تحريم الأمهات والأخوات والبنات.وما ذكره القاضي يجمع هذه الأقوال ويزيد عليها.وخصّ نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر لأنهم أرباب الشرائع.قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين} أي عظم عليهم.{مَا تَدْعُوهُمْ إليه} من التوحيد ورفض الأوثان.قال قتادة: كَبُرَ على المشركين فاشتدّ عليهم شهادة أن لا إله إلا الله، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله عز وجل إلا أن ينصرها ويُعليها ويظهرها على من ناوأها.ثم قال: {الله يجتبي إليه مَن يَشَاء} أي يختار.والاجتباء الاختيار؛ أي يختار للتوحيد من يشاء.{ويهدي إليه مَن يُنِيبُ} أي يستخلص لدينه من رجع إليه. اهـ.
|